الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال ابن قتيبة: ولا أدري ما الذي حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة، وقال مجاهد: {مَّسْحُورًا} أي مخدوعًا لأن السحر حيلة وخديعة، وذلك لأن المشركين كانوا يقولون: إن محمدًا يتعلم من بعض الناس هذه الكلمات وأولئك الناس يخدعونه بهذه الكلمات وهذه الحكايات، فلذلك قالوا: إنه مسحور أي مخدوع، وأيضًا كانوا يقولون: إن الشيطان يتخيل له فيظن أنه ملك فقالوا: إنه مخدوع من قبل الشيطان.ثم قال: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} أي كل أحد شبهك بشيء آخر، فقالوا: إنه كاهن وساحر وشاعر ومعلم ومجنون، فضلوا عن الحق والطريق المستقيم فلا يستطيعون سبيلًا إلى الهدى والحق.{وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)}.اعلم أنه تعالى لما تكلم أولًا في الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات، ذكر في هذه الآية شبهات القوم في إنكار المعاد والبعث والقيامة، وقد ذكرنا كثيرًا أن مدار القرآن على المسائل الأربعة وهي: الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر، وأيضًا أن القوم وصفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونه مسحورًا فاسد العقل، فذكروا من جملة ما يدل على فساد عقله أنه يدعي أن الإنسان بعدما يصير عظامًا ورفاتًا فإنه يعود حيًا عاقلًا كما كان، فذكروا هذا الكلام رواية عنه لتقرير كونه مختل العقل.قال الواحدي رحمه الله: الرفت كسر الشيء بيدك، تقول: رفته أرفته بالكسر كما يرفت المدر والعظم البالي، والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء يكسر.يقال: رفت عظام الجزور رفتًا إذا كسرها، ويقال للتبن: الرفت لأنه دقاق الزرع.قال الأخفش: رفت رفتًا، فهو مرفوت نحو حطم حطمًا فهو محطوم والرفات والحطام الاسم، كالجذاد والرضاض والفتات، فهذا ما يتعلق باللغة.أما تقرير شبهة القوم: فهي أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في حوالي العالم فاختلط بتلك الأجزاء سائر أجزاء العالم.أما الأجزاء المائية في البدن فتختلط بمياه العالم، وأما الأجزاء الترابية فتختلط بتراب العالم، وأما الأجزاء الهوائية فتختلط بهواء العالم، وأما الأجزاء النارية فتختلط بنار العالم وإذا صار الأمر كذلك فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرة أخرى.وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرة أخرى، فهذا هو تقرير الشبهة.والجواب عنها: أن هذا الإشكال لا يتم إلا بالقدح في كمال علم الله وفي كمال قدرته.أما إذا سلما كونه تعالى عالمًا بجميع الجزئيات فحينئذ هذه الأجزاء وإن اختلطت بأجزاء العالم إلا أنها متمايزة في علم الله تعالى ولما سلمنا كونه تعالى قادرًا على كل الممكنات كان قادرًا على إعادة التأليف والتركيب والحياة والعقل إلى تلك الأجزاء بأعيانها، فثبت أنا متى سلمنا كمال علم الله وكمال قدرته زالت هذه الشبهة بالكلية. اهـ.
.قال الماوردي: قوله عز وجل: {وإذا قرأت القرآن جلعنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا}.فيه وجهان:أحدهما: أي جعلنا القرآن حجابًا ليسترك عنهم إذا قرأته.الثاني: جعلنا القرآن حجابًا يسترهم عن سماعه إذا جهرت به. فعلى هذا فيه ثلاثة أوجه:أحدها: أنهم لإعراضهم عن قراءتك كمن بينك وبينهم حجابًا في عدم رؤيتك. قاله الحسن.والثاني: أن الحجاب المستور أن طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه، قاله قتادة.الثالث: أنها نزلت في قوم كانوا يؤذونه في الليل إذا قرأ، فحال الله بينه وبينهم من الأذى، قاله الزجاج.{مستورًا} فيه وجهان:أحدهما: أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه.الثاني: أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه، ويكون مستور بمعنى ساتر، وقيل إنها نزلت في بني عبد الدار.قوله عز وجل: {نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى} في هذه النجوى قولان:أحدهما: أنه ما تشاوروا عليه في أمر النبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة.الثاني: أن هذا في جماعة من قريش منهم الوليد بن المغيرة كانوا يتناجون بما ينفّرون به الناس عن اتباعه صلى الله عليه وسلم. قال قتادة: وكانت نجواهم أنه مجنون، وأنه ساحر، وأنه يأتي بأساطير الأولين.{إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجُلًا مسحورًا} فيه ثلاثة أقاويل:أحدها: أنه سحر فاختلط عليه أمره، يقولون ذلك تنفيرًا عنه.الثاني: أن معنى مسحور مخدوع، قاله مجاهد.الثالث: معناه أن له سحرًا، أي رئة، يأكل ويشرب فهو مثلكم وليس بملك، قاله أبو عبيدة، ومنه قول لبيد:قوله عز وجل: {وقالوا أئِذا كُنّا عظامًا ورفاتًا} فيه تأويلان:أحدهما: أن الرفات التراب، قاله الكلبي والفراء.الثاني: أنه ما أرفت من العظام مثل الفتات، قاله أبو عبيدة، قال الراجز: اهـ. .قال ابن عطية: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)}.هذه الآية تحتمل معنيين: أحدهما أن الله تعالى أخبر نبيه أنه يحميه من الكفرة أهل مكة الذي كانوا يؤذونه في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد ويريدون مد اليد إليه، وأحوالهم في هذا المعنى مشهورة مروية، والمعنى الآخر أنه أعلمه أنه يجعل بين الكفرة وبين فهم ما يقرأه محمد عليه السلام حجابًا، فالآية على هذا التأويل في معنى التي بعدها، وعلى التأويل الأول هما آيتان لمعنيين، وقوله: {مستورًا} أظهر ما فيه أن يكون نعتًا للحجاب، أي مستورًا عن أعين الخلق لا يدركه أحد برؤية كسائر الحجب، وإنما هو من قدرة الله وكفايته وإضلاله بحسب التأويلين المذكورين، وقيل التقدير مستورًا به على حذف العائد وقال الأخفش {مستورًا} بمعنى ساتر كمشؤوم وميمون فإنهما بمعنى شائم ويامن.قال القاضي أبو محمد: وهذا لغير داعية إليه، تكلف، وليس مثاله بمسلم، وقيل هو على جهة المبالغة كما قالوا شعر شاعر، وهذا معترض بأن المبالغة أبدًا إنما تكون باسم الفاعل ومن اللفظ الأول، فلو قال حجابًا حاجبًا لكان التنظير صحيحًا، وقوله: {وجعلنا على قلوبهم أكنة} الآية، الأكنة جمع كنان، وهو ما غطى الشيء، ومنه كنانة النبل، والوقر الثقل في الأذن المانع من السمع، وهذه كلها استعارات للإضلال الذي حفهم الله به، فعبر عن كثرة ذلك وعظمه بأنهم بمثابة من غطى قلبه وصمت أذنه، وقوله: {وإذا ذكرت} الآية، يريد إذا جاءت مواضع التوحيد في القرآن أثناء قراءتك فرَّ كفار مكة من سماع ذلك إنكارًا له واستشباعًا، إذ فيه رفض آلهتهم واطراحها، وقال بعض العلماء: إن ملأ قريش دخلوا على أبي طالب يزورونه فدخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ وأمر بالتوحيد، ثم قال: «يا معشر قيرش قولوا لا إله إلا الله تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم» فولوا ونفروا، فنزلت الآية، وأن تكون الآية وصف حال الفارين عنه في وقت توحيده في قراءته أبين وأجرى مع اللفظ، وقوله: {نفورًا} يصح أن يكون مصدرًا في موضع الحال، ويصح أن يكون جمع نافر كشاهد وشهود، لأن فعولًا من أبنية فاعل في الصفات، ونصبه على الحال، أي نافرين، وقوله: {أن يفقهوه} {أن} نصب على المفعول أي كراهة أن، أو منع أن، والضمير في {يفقهوه} عائد على {القرآن}، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: إنما عنى بقوله: {ولوا على أدبارهم نفورًا} الشياطين وأنهم يفرون من قراءة القرآن، يريد أن المعنى يدل عليهم وإن لم يجر لهم ذكر في اللفظ، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له خصاص» وقوله: {نحن أعلم بما يستمعون به} الآية، هذا كما تقول فلان يستمع بحرص وإقبال، أو بإعراض وتغافل واستخفاف، فالضمير في {به} عائد على {ما}، وهي بمعنى الذي، والمراد بالذي ما ذكرناه من الاستخفاف والإعراض، فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به، أي هو ملازمهم، ففضح الله بهذه الآية سرهم، والعامل في {إذ} الأولى وفي المعطوفة عليها {يستمعون} الأول، وقوله: {وإذ هم نجوى} وصفهم بالمصدر، كما قالوا: قوم رضى وعدل، وقيل المراد بقوله: {وإذ هم نجوى} اجتماعهم في دار الندوة ثم انتشرت عنهم، وقوله: {مسحورًا} الظاهر فيه أن يكون من السحر، فشبهوا الخبال الذي عنده بزعمهم، وأقواله الوخيمة برأيهم، بما يكون من المسحور الذي قد خبل السحر عقله وأفسد كلامه، وتكون الآية على هذا شبيهة بقول بعضهم {به جنة} [المؤمنون: 25] ونحو هذا، وقال أبو عبيدة: {مسحورًا} معناه ذا سحر، وهي الرية يقال لها سحر وسُحر بضم السين، ومنه قول عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري ومنه قولهم للجبان: انتفخ سحره، لأن الفازع تنتفخ ريته، فكأن مقصد الكفار بهذا التنبيه على أنه بشر أي ذا رية، قال: ومن هذا يقال لكل من يأكل ويشرب من آدمي وغيره: مسحور ومسحر، ومنه قول امرىء القيس: [الوافر]وقول لبيد: بالطويل: ومنه السحور، وهو إلى هذه اللفظة أقرب منه إلى السحر، ويشبه أن يكون من السحر، كالصبوح من الصباح، والآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة التي في الآية من السِّحر، بكسر السين، لأن حينئذ في قولهم ضرب مثل له وأما على أنها من السحر الذي هو الرية ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له.{انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)}.ضرب المثل له هو قولهم مسحور، ساحر، مجنون، متكهن، لأنه لم يكن عندهم متيقنًا بأحد هذه، فإنما كانت منهم على جهة التشبيه، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقرب هذه الأمور على تخيل الطارين عليهم هو أنه ساحر، ثم حكم الله عليهم بالضلال، وقوله: {فلا يستطيعون سبيلًا} يحتمل معنيين: أحدهما لا يستطيعون سبيلًا إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان، فتجري الآية مجرى قوله: {وجعلنا على قلوبهم أكنة} [الإسراء: 46] [الأنعام: 25] ونحو هذا، والآخر: لا يستطيعون سبيلًا إلى فساد أمرك وإطفاء نور الله فيك بضربهم الأمثال لك واتباعهم كل حيلة في جهتك، وحكى الطبري أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه، وقوله: {إذا كنا عظامًا} الآية، هذه الآية في إنكارهم البعث، وهذا منهم تعجب وإنكار واستبعاد، والرفات من الأشياء: ما مر عليه الزمن حتى بلغ به غاية البلى، وقربه من حالة التراب، يقال: رفت رفتًا فهو مرفوت، وفعال: بناء لهذا المعنى، كالحطام، والفتات، والرصاص، والرضاض، والدقاق، ونحوه، وقال ابن عباس: {رفاتًا} غبارًا، وقال مجاهد: ترابًا، واختلف القراء في هذين الاستفهامين: فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {أيذا كنا ترابًا أينا} جميعًا بالاستفهام، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة، ثم يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدة، وقرأ نافع الأولى مثل أبي عمرو، واختلف عنه في المد، وقرأ الثانية {إنا} مكسورة على الخبر، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول من الثاني، غير أنه كان يهمز همزتين، وقرأ عاصم وحمزة: {أإذا أإنا} بهمزتين فيهما، وقرأ ابن عامر: {إذا كنا} مكسورة الألف من غير استفهام {ءإنا} يهمز، ثم يمد، ثم يهمز. ويروى عنه مثل قراءة حمزة، وفي سورة الرعد توجيه هذه القراءات، و{جديدًا} صفة لما قرب حدوثة من الأشياء، وهكذا يوصف به المذكر والمؤنث، فيقال ملحفة جديد وقولهم جديدة، لغة ضعيفة، كذا قال سيبويه. اهـ. .قال ابن الجوزي: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)}.قوله تعالى: {حجابًا مستورًا} فيه ثلاثة أقوال.أحدها: أن الحجاب: هو الأكنَّة على قلوبهم، قاله قتادة.والثاني: أنه حجابٌ يستره فلا ترونه؛ وقيل: إِنها نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا قرأ القرآن؛ قال الكلبي: وهم أبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو جهل، وأم جميل امرأة أبي لهب، فحجب الله رسولَه عن أبصارهم عند قراءة القرآن، فكانوا يأتونه ويمرُّون به، ولا يرونه.والثالث: أنه مَنْعُ الله عز وجل إِياهم عن أذاه، حكاه الزجاج.وفي معنى {مستورًا} قولان.أحدهما: أنه بمعنى ساتر؛ قال الزجاج: وهذا قول أهل اللغة.قال الأخفش: وقد يكون الفاعل في لفظ المفعول، كما تقول: إِنك مشؤوم علينا، وميمون علينا، وإِنما هو شائم ويامن، لأنه مِن شَأمَهَمُ ويَمَنَهُم.والثاني: أن المعنى: حجابًا مستورًا عنكم لا ترونه، ذكره الماوردي.وقال ابن الأنباري: إِذا قيل: الحجاب: هو الطبع على قلوبهم، فهو مستور عن الأبصار، فيكون {مستورًا} باقيًا على لفظه.
|